فلسفة التاريخ عند هيجل
تعد فلسفة التاريخ عند الفيلسوف الألماني هيجل المولود في شتوتجارت في العام 1770م أكثرأجزاء فلسفته شيوعاً وأميزها شهرة وثراءً معرفياً، ذلك أنه أقامها على أساس دقيق فصل القول فيه من خلال تعريفه للتاريخ نفسه بأنه ليس ذلك المدونات النظرية التي يقوم خلالها المؤرخ بسرد الأحداث والوقائع وتبويبها وتقديمها للقارئ بصورة خطية مستقيمة، كما أنه ليس ذلك النمط الذي يتعرض للوقائع التاريخية الماضية بهدف استخلاص العبروالدروس من ذلك الماضي واقتراح حلول معاصرة اتكاءً على أحداث الماضي باعتبارأن التاريخ شاهد ومهمين على العقل الكلي، وبالتالي فإن أحداثه الماضية التي أدارمن خلالها العقل لتصريف الوقائع التاريخية الماضية صالحة لاستخلاص الآلية المناسبة منها لإدارة الوقائع الحالية، فهذا كله وأمثاله لايعد في نظرهيجل تاريخاً بالمعنى الفلسفي لكلمة التاريخ إلابمقدارتقديمه للأحداث التي وقعت كناحية وصفية ليس إلا.
أما التاريخ الحقيقي وفق الفلسفة الهيجلية فهوذلك التاريخ الذي يهيمن على الوقائع ويصوغها ضمن منطقها الداخلى من خلال تفاعل الشخصيات التاريخية نفسها مع المقصد الخفي الذي يبلوره المنطق الباطني للتاريخ، حيث يقوم التاريخ وفقاً لهذه الفلسفة بتفسيرالوقائع واستخراج القوانين والتنبؤات لما سيجرى من غيرالتقيد بزمن معين يراد له أن يبسط قوانين وآلية جريان أحداثه على زمن آخر، والسبب في ذلك أن العقل كما يراه هيجل هوجوهرالتاريخ، ومن ثم فهذا العقل هوالذي يتحكم في أحداث العالم عن طريق التاريخ نفسه، وبالتالي فكل حدث من أحداث التاريخ إنما جرى وفقاً لمقتضيات العقل الذي يموضع الأحداث العالمية لتخدم قصداً معيناً أوهدفاً محدداً ولكن من تحت مظلة التاريخ.
هذه الفلسفة في النظرة للعقل باعتباره جوهرالتاريخ تقتضي نظرة معاكسة للنظرة التقليدية السائدة عن التاريخ التي تعتمد على جعله مهميناً على العقل بتوقع سيناريوللأحداث الجارية أوالتي ستجري بأنها ستكون على سيناريومشابه لأحداث تاريخية سابقة مشابهة، أما فلسفة التاريخ الهيجلية فعلى العكس منها بحيث تعتبرالعقل نفسه هو من يسيرالتاريخ بحيث يرتب أحداثه على نحوٍيجعلها سائرة نحو هدف أومقصد بعيدالمدى.
على هذا النحوفالتاريخ لدى هيجل عبارة عن منظومة تطورونموخاضعة لمنطق باطن كامن في الشخصيات التاريخية التي لم تكن وفق هذه الفلسفة إلاأدوات لتحقيق فلسفة أوهدف التاريخ السائربشكل حتمي نحوتحقيق مقصد كلي بحيث لم تكن تلك الشخصيات التاريخية تشعرأساساً بأنها ستحققه ولم يكن يشكل في الأساس مقصداً لها وإنما تصرفت على نحوجعلها تضبط وقائع التاريخ نحوذلك الهدف، هؤلاء الأشخاص أوالأدوات التنفيذية كما يرمزلهم هيجل ليسوا استثناءً من فلسفة المصلحة أوالمنفعة الشخصية فهم يسيرون حسب أهوائهم وتحكم تصرفاتهم مصالحهم الشخصية ويرومون تحقيق مآربهم الخاصة دون إرادة أي شيء آخر، ولكن منطق التاريخ الداخلي يؤكد أن غاية بعيدة المدى ستتحقق من سعيهم لمصالحهم رغم أنهم لم يكونوا هم في الأساس على علم بها ولم تكن على أجندة مصالحهم وهومايسميه هيجل (مكرأوخبث العقل الكلي المسيطرعلى التاريخ) حيث يتبدى خبث هذا العقل بأنه يستعين بهذه الشخصيات التاريخية لتحقيق مقاصده دون أن يكون لهم علم بها، والذي يجعل هؤلاء أقوياء وجادين على السيرنحوالطريق إلى الهدف، هو أن أهدافهم الجزئية ومصالحهم الضيقة تحتوي في باطنها على المحتوى الجوهري الذي هوإرادة الروح الكلية أوالعقل الكلي، وهذا المحتوى موجود في الأساس في الغريزة الكلية غيرالمشعوربها لدى الناس بمن فيهم أدوات التنفيذ التاريخية.
في المراحل الحاسمة على الطريق نحوتحقيق مقصد أوهدف التاريخ الكلي كما يقول هيجل، تحدث اصطدامات عظمى بين الأنظمة القائمة (أنظمة فكرية معينة مسيطرة على لحظات معينة من لحظات التاريخ) وبين تيارات مضادة لهذه الأنظمة مما يؤدي إلى زعزعتها بحيث تبدوهذه الاصطدامات وكأنها شر لابد منه لإتمام عملية التحول بنجاح، ويسمي هيجل تلك الشخصيات التاريخية التي يتحقق على أيديها الزلزال التغييري عظماء التاريخ وهم حين يحققون مطامعهم أويسيرون في طريقها وإن لم تتحقق في النهاية، فإنهم يحققون في نفس الوقت الغاية الأسمى التي تتفق مع التصورالأعلى للروح الكلية المسيطرة على التاريخ .
في هذا الاتجاه الهيجلي يمكن اعتبار معطيات وثمار عصرالأنوارالأوروبي الذي تحقق على أيدي فلاسفة التنوير بمثابة تطبيق لتلك الفلسفة الجديدة للتاريخ، فعندما كان العقل الكلي الأوروبي سائراً نحوالتحررالكامل والتقدم في اتجاه الأنسنة الشاملة كان لابد لمنطق التاريخ من أن يعمل على إشعال نارالاصطدام بين النظام الفكري الكنسي المتزمت السائد في أوروبا وبين التيارات الفكرية التنويرية الجديدة، وكان لذلك ثمنه الباهظ الذي تمثل في الاضطهاد الكنسي للمفكرين والأدباء والفلاسفة الأوروبيين الذي جاء على خلفية محاولات الكنيسة الحفاظ على موقعها المتميزالقائم على وهم حقها الوحيد في الإمساك بزمام الخلاص الروحي والتفسيرالوحيد للدين، ولم يكن يدوربخلد أولئك المنفذين من أباطرة الكنيسة وقساوستها وهم يقيمون محاكم التفتيش ويحرقون العلماء ويسحلون الفلاسفة أنهم إنما يؤدون دوراً رسمه لهم التاريخ بواسطة العقل الكلي المسيطرمسبقاً، هذا الدور أدى حين بلوغه مرحلته الحاسمة إلى انتهاء دورالكنيسة الأوروبية في ما يخص هيمنتها على الأفراد والحياة وتحررالعقل الأوروبي نهائياً من قبضتها وتحولت إلى مؤسسة دينية تحكمها لوائح وأنظمة المؤسسات الأخرى في المجتمع، هذا الوضع دعا بعضاً من المفكرين العرب والأجانب إلى أن يعتبروا ما يجري حالياً من قبل الأصوليات المتشددة في العالم الإسلامي من انفجارداخلي وضيق بمعطيات الحداثة ومؤسساتها وقيامها على العنف والتفجيروالتفخيخ وقتل الناس على الهوية الدينية ما هوإلا مقدمة لذلك الاصطدام الكبيرالذي تحدث عنه هيجل أوربما هوالاصطدام نفسه الذي سيعقبه اندحارتلك الأصوليات وانتصارمبادئ الحضارة الإنسانية على أنقاضها وستكون شخوصها إذ ذاك مجرد أدوات تنفيذية أدت من دون أن تقصد إلى الهدف الكبيرالذي ينشده التاريخ وهوتحقيق الانتصارالتام لقيم الحداثة ومبادئ الإنسانية ومفردات التنويروتحقيق العدل والحرية والمساواة وبسطها في المجتمعات الإسلامية والاستفادة من التراثات الإنسانية القائمة على مبادئ التنويربدون عقد مسبقة أواحتشاء أوتمحورنحوتراث معين أنتجه قوم غابرون في مجاهل التاريخ لظروف عصرهم التي لم يكن بالإمكان التعامل معها بغيرتلك الآليات التي يضمها ذلك التراث، ولكن والظروف المعاصرة تضغط باتجاة كونية سريعة وعولمة ضاغطة فلا بدّ لتلك المجتمعات من السيرباتجاه اكتشاف آليات معاصرة لواقع معاصريتطلب روحاً جديدة قائمة على الاستفادة من أي تراث إنساني ينشد قيمة الإنسان ويحققها.
هل تتحقق نبوءة فلسفة التاريخ لهيجل في واقع المجتمعات الإسلامية وهي تكابد مواجهة ظلامية المشاريع الأصولية القائمة على تصنيف البشروفق أديانهم أوأعراقهم أومذاهبهم وما شابهها من مفردات تصنيفية ظلت عائقاً أمام تلك المجتمعات نحو الالتحاق بركب الحضارة العالمية؟ التاريخ وحده مرة أخرى كفيل بالإجابة.
0 التعليقات:
إرسال تعليق