- انفتاح مؤرخي الحوليات على التخصصات الاجتماعية المختلفة الأخرى، كان له أكبر الأثر على صناعة التاريخ.
- فالتجديد لم يلحق موضوع ومنهج المؤرخ فحسب بل أثر في عقلية المؤرخ ذاتها.
- فهذا الأخير أصبح مستعدا لتقبل كل مستجدات محيطه العلمي.
- وكما قال بروديل فإن "التاريخ ربما لأنه أقل العلوم بناء، يقبل كل دروس جيرانه ويعمل على تطبيقها".
- و في نفس المعنى يضيف "التاريخ عندي هو حصيلة كل التواريخ الممكنة، جميع المهن وجميع وجهات النظر بالأمس واليوم وغدا".
- فالتداخل بين هذه التخصصات يفرضه واقع موضوع دراستها.
- هذا التحول في منطق المؤرخ جعل من التاريخ حسب هذا التطور الذي طرأ عليه علما مرنا ومتفتحا.
- يقول بروديل إن التاريخ "أراد أن يصغي باهتمام لكل علوم الإنسان وهذا أعطى لمهنتنا حدودا واهتمامات غريبة. لهذا لا يمكن أن نتصور أن توجد اليوم بين المؤرخ وملاحظ العلوم الاجتماعية نفس الحدود والاختلافات التي كانت توجد بينهما بالأمس، إن كل العلوم الاجتماعية بما فيها التاريخ تتبادل التأثير بينها، إنها تتكلم و يمكن أن تتكلم نفس اللغة".
- كان للتصور الجديد للتاريخ، انعكاسات جمة على صناعة المؤرخ. فإلغاء الحدود بين التاريخ والعلوم الاجتماعية أدى إلى بروز تخصصات ثنائية المشارب مثل الديموغرافيا التاريخية، التاريخ الاقتصادي، التاريخ الاجتماعي... الاستفادة من المفاهيم وتبني المناهج والتقنيات المستعملة في هذا العلم الاجتماعي أو ذاك، أدى إلى بروز تخصصات جديدة في ميدان التاريخ مثل تاريخ الذهنيات والتصورات أو تاريخ المؤسسات والمعتقدات أو تاريخ السلطة.
- الإشكالات: ظهر الاهتمام بإشكاليات جديدة، مثل الاهتمام بإشكالية التكميم وإشكالية التنظير في التاريخ ومسألة كتابة تاريخ الشعوب ذات الثقافة الشفاهية...
- المقاربات: بروز مقاربات جديدة تعتمد على الطرق الإحصائية والرياضية الأنتروبولوجية والأركيولوجية المختلفة.
- المواضيع: ظهور مواضيع جديدة في ميدان الكتابة التاريخية مثل مواضيع: الطقس، الموت، اللاشعور، الجسد، المطبخ، الفيلم، العيد، الضحك.
- التصور الجديد يخالف التصور القديم في جميع المستويات. و هكذا تم:
- تحويل اهتمام المؤرخين من الخاص إلى العام و من الفرد إلى المجتمع.
- تحويل الاهتمام من الأحداث إلى الثوابت.
- التخلي عن أسلوب الرواية و تبني أسلوب التحليل.
- تعويض لغة العموم بلغة العلوم، وهي لغة مشتركة بين العلوم الاجتماعية.
- تبني المقولات النظرية التي فرضت نفسها في ميدان العلوم الاجتماعية مثل مقولة الطبقة والبنية والظرفية والنخبة...
- تبني المفاهيم الكمية والتقنيات السيكولوجية وأساليب التحليل الحسابي وطرق الإحصاء والعينات
- إضافة إلى هذه التغيرات العامة يمكن كذلك تسجيل تحولين أساسيين في صناعة التاريخ الجديدة، و هما تحولان مسا:
- مفهوم الوثيقة: و هي أساس عمل المؤرخ، إذ اتسع مجالها كثيرا، وباتساع هذا المجال اتسع كذلك ميدان التاريخ إلى كل المواضيع.
- مفهوم الزمن: وهو المفهوم المركزي في صناعة التاريخ، عرف بدوه تغيرا و توسعا لخصه بروديل في "ثلاثية الحقبة" التي أقام على أساسها التمييز بين ثلاثة مستويات من التاريخ و هي:
- التاريخ البنيوي: و زمنه المدة الطويلة، وهو زمن بطيء يتناسب و إيقاع التغيرات الجيولوجية والذهنية.
- التاريخ الظرفي: وهو تاريخ المدة المتوسطة، وزمن التحولات السوسيولوجية.
- التاريخ الفردي: وهو زمن المدة القصيرة، وزمن الأحداث السياسية والعسكرية والدبلوماسية.
- "إن الحاضر و الماضي يضيء كل منهما الآخر"، وهي فكرة أساسية عند مؤسسي الحوليات الأولين و قد بلورها بلوخ، بوضوح في نظريته عن "التاريخ التراجعي".
- ذلك النسق الذي خلق مجموعة متلاحمة من العناصر الجديدة و الحاسمة في دراسة و كتابة التاريخ:
- أولا : توسيع حقل المعرفة التاريخية بالانفتاح على مختلف العلوم الاجتماعية والاحتكاك المتواصل بها.
- ثانيا: الاهتمام بقضايا أساسية و جديدة تمس التاريخ الاقتصادي والاجتماعي والديموغرافي والذهني وذلك تجاوزا للتاريخ التقليدي المهتمة بالأحداث السياسية والعسكرية والدبلوماسية.
- ثالثا: إفراز أسلوب جديد في طرح الإشكاليات التاريخية و تصور جديد لزمن التاريخ.
- إن حوار احتكاك التاريخ بالعلوم الاجتماعية حوار أعطى انطلاقته هنري بير، يقول بروديل "إن هذا الرجل، إلى حد ما الحوليات قبل نشوءها، منذ سنة 1900، و ربما قبل ذلك، منذ 1890، إليه يجب الرجوع إذا أردنا أن نعرف كيف بدأ كل شيء".
- إن مساهمة بير في تطوير المعرفة التاريخية تمت بواسطة أعمال متعددة. فبالإضافة إلى أطروحته حول "تركيب المعارف و التاريخ. محاولة في مستقبل الفلسفة" 1898م، يمكن التركيز على نقطتين أساسيتين:
- أولا تأسيس "مجلة التركيب التاريخي"، 1900، و التي استقبلت في صفحاتها مساهمات متعددة الاختصاصات داعية إلى إدراك عميق للواقع الاجتماعي وتحطيم الحواجز بين مختلف الاختصاصات. بل أكثر من ذلك، شكلت كما يرى فيفر في مقالة له بعنوان "من مجلة التركيب إلى مجلة الحوليات" بؤرة انبثقت منها طموحات إنشاء مجلة جديدة تخدم هي أيضا العلم وتقدمه "حوليات التاريخ الاقتصادية و الاجتماعية". و المتتبع للظرفية الفكرية لهذه الفترة يلاحظ أن الأولى ظلت على الرغم من مكانتها العلمية لهذه الفترة يلاحظ أن الأولى ظلت على الرغم من مكانتها العلمية على هامش المؤسسات الجامعية و في حاجة إلى "الشرعية الأكاديمية"، بينما ظهرت الثانية في قلب الجامعة، جامعة ستراسبورغ التي أريد لها أن تكون واجهة ثقافية لامعة ومجددة للفكر الفرنسي أمام ألمانيا في أعقاب الحرب العالمية الأولى.
- ثانيا: تنظيم ملتقيات فكرية منتظمة "أسابيع التركيب"، تجمع مجموعة من المثقفين الجامعيين: مؤرخين، جغرافيين، سوسيولوجيين، اقتصاديين، بل حتى البيولوجيين والفيزيائيين. نذكر من بينهم: المؤرخ الاقتصادي هنري هوسر، السوسيولوجي موريس هالبواش، الفيلسوف ليون برانشفيك، المؤرخان لوسيان فيفر ومارك بلوخ، ملتقيات يطرحون فيها أفكارهم و نظرياتهم ومناهجهم للنقاش والحوار والبناء.
- وفي هذه الحالة فإن للواقعة المنعزلة لا تعني شيئا، إذ لم يتم إدماجها في سلسلة من العلاقات المنتظمة.
- تقوم وحدة العلوم الاجتماعية عند سيمياند على أساس وحدة المنهج. أما فكرة وحدة العلوم عند مؤسسي الحوليات، تقوم على وحدة الموضوع، وهو الإنسان.
- الكل يتحرك: الرجال طبعا، الحيوانات، التقنيات، أساليب التفكير والتصور والفعل، جزئيات اللباس و السكن.
سمات مدرسة الحوليات من خلال بعض الإنتاجات التاريخية:
النوع الأول: يرتبط بأعمال نظرية و منهجية حول البحث التاريخي تترجم الإمكانيات العملية لاستفادة التاريخ من علوم الإنسان بهدف توسيع المعرفة التاريخية. نذكر هنا بالخصوص :
- معارك من أجل التاريخ لويس فيفر و هي مجموعة مقالات ظهرت بالدرجة الأولى في مجلتي التركيب و الحوليات، و يمتد تاريخ كتابتها من 1906 إلى 1952.
- مهنة المؤرخ لـ مارك بلوخ، الذي يعتبر بيانا تاريخيا لم يتمكن صاحبه من إتمامه بسبب ظروف الحرب العالمية الثانية التي عصفت بحياته.
- إنهما كتابان يزخران بالكثير من التعاليم التي تدعو المؤرخين إلى ضرورة الاحتكاك بالعلوم الاجتماعية و الإطلاع على نتائج الأبحاث الجغرافية والسوسيولوجية والاقتصادية، وعدك الاقتصار على الوثيقة المكتوبة كعنصر مركزي في التحليل التاريخي كما كان الشأن ضمن التوجه السائد لدى المدرسة التاريخية التقليدية.
- لقد برز هذا النداء كضرورة لتوسيع دائرة مصادر المعرفة التاريخية بالاعتماد على كل ما من شأنه أن يفيد في فهم و حل القضايا و الإشكاليات التاريخية : بقايا أركيولوجية، نقود قديمة، خرائط، رموز...لأن التاريخ حسب فيفر يحوي كل ما يتصل بالإنسان، "كل ما ينتمي للإنسان، ما يعبر عن الإنسان، ما يدل عن حضور الإنسان و نشاطه و أذواقه و طرق عيشه".
- إنه وقوف صريح في وجه "المدرسة الوضعية". بممثليها البارزين أمثال: إرنست لافيس، شارل فيكتور لانغلوا، شارل سينيوبوس، الذين هيمنوا في نهاية القرن 19م، و بداية القرن 20، على الإنتاج التاريخي في قالبه التقليدي الذي تغلب عليه الأحداث و يقيده الارتباط الضيق بالوثيقة.
- إنه تمرد ضد النظام الجامعي الذي تقوده السربون بكل توجهاته و مناهجه و برامجه، و ذلك بأسلوب نقذي لاذع و عنيف.
- أما البرنامج الفكري البديل الذي اقترحه مؤسسوا الحوليات فينتظم حول ضرورة مركزية وعاجلة: "إخراج التاريخ من انغلاقه التخصصي على تساؤلات و مناهج العلوم الاجتماعية الأخرى".
النوع الثاني: أبحاث تاريخية علمية يتجلى فيها بوضوح رصد العلوم الإنسانية، نذكر منها:
- "الأرض و التطور البشري" 1922، لوسيان فيفر.
- الخصائص الأصلية للتاريخ القروي الفرنسي ق 11-18م، 1931. مارك بلوخ
- المجتمع الفيودالي 1936م، مارك بلوخ.
- حركة الأسعار و المداخل في فرنسا خلال القرن 18م، لابروس.
- كل هذه الأعمال المنهجية و العملية هي في حقيقة الأمر نداءات قوية وملحة تدعو المؤرخين إلى ضرورة اهتماماتهم من البحث في الأحداث على شاكلة النهج السربوني إلى البحث في الواقع المعقد و المتشابك للحياة البشرية في محيطها الجغرافي والاقتصادي و أطرها الذهنية.
- لقد اجتهد الرواد في إبداع مفاهيم جديدة و للتحليل التاريخي:
- بناء على الرصيد المنهجي والعملي تمكن بروديل من تشكيل مفاهيم جديدة للتحليل التاريخي.
- ففي أطروحته حول "البحر الأبيض المتوسط" و التي قدمها للمناقشة ( 1947)، بعد 20 سنة من البحث و التبصر والتفكير، يكشف عن عمق الواقع التاريخي ويبلور تصورا جديدا يقوم أساسا على البعد الزمني، والتركيز على القيمة الاستثنائية للأمد الطويل.
- يقول في مدخل عمله "ينقسم هذا الكتاب إلى 3 فصول، كل واحد يعتبر في حد ذاته محاولة للتفسير
- الأول: يتعلق بتاريخ ثابت، تاريخ الإنسان في علاقاته مع الوسط الذي يحيط به، تاريخ بطيء السير والتحول، مكون في الغالب من رجوعات ملحة وحلقات متكررة باستمرار...
-الثاني: تاريخ بطيء الإيقاع، قد نقول عن طيب خاطر، إدا لم تعرف العبارة عن معناها الكامل، تاريخ اجتماعي، تاريخ الجماعات والتجمعات...
- الثالث: مخصص للتاريخ التقليدي، إذا أردنا للتاريخ على بعد الفرد وليس الإنسان، التاريخ الحدثي... تاريخ ذو تذبذبات قصيرة، سريعة و متوترة...
الزمن:
- الزمن بدوره في إطار هذا التطور الاجتماعي للتاريخ، يكف عن أن يكون مجرد إطار كرونولوجي ملزم ليصبح إطارا تم التحولات داخله، كما يكون بمثابة المختبر الذي يقوم فيه الباحث الاجتماعي بتمحيص فرضياته، اعتمادا على المقارنة و متابعة منطق الثوابت و حركة التغيير.
- هناك ظرفيات قصيرة:
معرفة وفرة الطعام أو نذرته من خلال ملاحظات المؤرخين و أوصاف الرحالة عن موائد الأمراء و موائد البسطاء في فترة، أو عقد من الزمن أو سنة...
- هناك ظرفيات طويلة:
من خلال الاستبدالات الغذائية. أو مدة توطن مادة غذائية معينة في منطقة ما (سكر الشمندر تطلب أكثر من 100 سنة ليتوطن في أوربا).
- نموذج آخر جيد حول لظرفية الطويلة، بل الطويلة جدا. (مواد الهند واندونيسيا والفلبين، التي حركت لقرون من الزمن التجارة الأوربية البعيدة. كلنا نعلم هيمنة كماليات البهار والتوابل على البحر المتوسط والغرب لعدة قرون. إنها الكماليات التي تفسر ثراء ومجد البندقية وجنوة...).
- لكل عصر مخدراته، أساليب لهوه، "مسكناته".
- لكل عصر مفتاحه وموضته.
- تاريخ الخبز، تاريخ الخمر: إطارها الزمني يستغرق قرونا.
- التحرر من الزمن القصير و حتى الطويل، هو الذي يمكننا من الحديث عن الثورة الزراعية للنيوليتيين، مثلا كواقع على الدوام: نفس الأمر مع الثورة الفرنسية و الروسية.
- إنه الإنسياق مع الرغبة في الخروج من الزمن القصير و الثقب الضيق اللذان يجعلان المؤرخ يدرك المظاهر أكثر مما يستوعب حقائق الماضي.
- لابد من تغيير شباكنا لتغيير رصيدنا.
- لكل موضوع منطقه الخاص.
- هكذا توصلنا على تفكيك التاريخ إلى ثلاثة مستويات متدرجة/ أو إذا أردنا القول إلى التمييز في زمن التاريخ بين: زمن جغرافي، زمن اجتماعي، زمن فردي".
- هذا "التصميم الجديد و الثوري" يطرح جدلية عميقة بين المجال و الزمن و يفرز تعددية في الأزمنة و الآماد:
- زمن طويل يوافق تاريخا بنيويا يمتد على مدى قرون.
- زمن دوري يوافق تاريخا ضرفيا.
- زمن قصير يوافق تاريخا تقليديا.
- لقد صرح المؤرخ الاقتصادي "إرنست لابروس"، وهو أحد الأعضاء الخمسة المكونة للجنة مناقشة بحث بروديل، بحكم هذه الأخيرة قائلا: "أن هذا التصور للتاريخ الذي ينطلق من الأرض نحو الإنسان و نحو أعلى أنشطة الإنسان لجديد وعظيم"، فكتاب على هذا المستوى من الغنى الفكري، تضيف اللجنة "سيكون ذا أهمية تاريخية في الإستوغرافيا العالمية".
- و بالفعل شكلت أطروحة بروديل منذ صدورها 1949م، نموذجا للبحث التاريخي لدى عدد كبير من المؤرخين في فرنسا و خارجها. فلنفسر إذن المفاهيم المكونة لهذا التصور الجديد.
- الزمن الطويل:
- الزمن الطويل هو المستوى العميق الواقع التاريخي، هو المركز الذي ينجذب حوله الزمن الدوري و الزمن القصير في إطار جدلية الآماد.
- إنه "تاريخ الأمد الطويل"، ذلك الواقع المعقد الذي يستلزم تحولا عموديا في الرؤية التاريخية: "إنه قبوله من قبل المؤرخ، يقول بروديل، هو تهيئ لتغيير الأسلوب والموقف، لانقلاب في نظام التفكير، لتصور جديد للواقع الاجتماعي. هو تكيف مع زمن بطيء".
- لكن الأمد الطويل لا يمكن فهمه بعمق إلا في نطاق مفهوم آخر موازي و هو "البنية".
- ذلك أن الأمد الطويل هو تاريخ بنيات جغرافية واقتصادية واجتماعية وذهنية متأصلة وبطيئة التطور.
- البنية هنا يستعملها بروديل بمفهومها التاريخي الذي يختلف عن المعنى الذي تمنحه إياها السوسيولوجيا و الأنتروبولوجيا.
- في حواره العلمي مع كلود ليفي ستراوس، يقول بروديل وهو يحدد مفهوم البنية في بعدها الزمني الطويل: "عند الملاحظين للواقع الاجتماعي، البنية هي تنظيم، تجانس، علاقات ثابتة إلى حد ما بين الواقع والجماهير الاجتماعية. أما بالنسبة لنا، نحن المؤرخون، البنية هي من دون شك تركيب، هندسة، بل أكثر من ذلك، هي واقع يتصرف فيه الزمان بشكل سيء و يقوده على نحو بطيء جدا.. فبعض البنيات، بفعل بقاءها حية زمنا كويلا، تصير عناصر ثابتة على مدة أجيال لا نهاية لها: إنها تثقل كاهل التاريخ و تعرقله، و هي بذلك تتحكم في صيرورته... إنها حواجز ترسم حدودا يعجز الإنسان بتجاربه عن تجاوزها.. فكروا في صعوبة تحطيم بعض الأطر الجغرافية، بعض الوقائع البيولوجية، بعض حدود الإنتاجية.. فطيلة قرون من الزمن و الإنسان سجين مناخات ونباتات ومواشي و زراعات في إطار توازن بطيء البناء يصعب تجاوزه.. أنظروا إلى مكانة الانتجاع في الحياة الجبلية، إلى استمرارية بعض قطاعات الحياة البحرية متجذرة في نقاط معينة من المفاصل الساحلية، و التنقلات، مدى الثبات المدهش للإطار الجغرافي للحضارات".
- إن التحليل التاريخي المبني على الأمد الطويل يظهر بوضوح في الفصل الأول من البحر المتوسط المعنون بـ "حصة المجال"، و الذي يتعرض فيه بروديل لمختلف الوحدات الجغرافية المكونة للمجال المتوسطي بأطرها البشرية ووثائر الحياة بها: الجبال بسكانها وتقاليدها، التنقلات المنتظمة والمتكررة لرعاتها و مواشيها، السهول بلا ملاكين الكبار لأراضيها و فلاحيها الفقراء، أمراض مياهها الراكدة (الملاريا)، البحار بموانئها ورياحها وإيقاعاتها الملاحية، الجزر كمحطات للبحارة وبؤر للقرصنة وملاجئ للمهاجرين، الصحاري كوجه آخر للبحر المتوسط بأساليب عيشها وحركتها المبنية على الترحال ورواج القوافل الحاملة للذهب و استغلال الواحات، المناخ كوحدة فيزيائية بدرجات تغيره و بفصوله المتعاقبة و المحددة لإيقاعات معينة من الحياة الزراعية، (الجفاف) والملاحية (التوقف الخريفي) و البيولوجية (أوبئة الصيف)، الطرق والمدن أو المدن والطرق كوحدة بشرية. الطرق البرية و النهرية بمحاورها الرابطة بين البحر الأبيض المتوسط وأوربا الوسطى والشمالية والأطلسية، ووسائل نقلها و حمولتها، ثم المدن ببنياتها الديموغرافية ووظائفها وعوامل قوتها وأزماتها.
- نفس الرؤية نلمسها في عمله الضخم "الحضارة المادية..."، والذي يأخذ بعدا أوربيا، بل وعالميا في إطار تاريخ مقارن يشمل القارة العجوز وآسيا وإفريقيا وأمريكا على مدى الأزمنة الحديثة.
- ففي الجزء الأول الذي يمنحه بروديل عنوانا إيحائيا "البنية اليومية"، يطرح مجموعة من العناصر التي تكون البنيات الأساسية للحياة الاجتماعية والاقتصادية والديموغرافية و البيولوجية والتقنية. ويعمل في نفس الوقت على تتبع إيقاعات تطورها و ثباتها في الزمن الطويل من القرن 15 إلى القرن18م: ساكنة العالم بأرقامها و نظامها البيولوجي (مجاعات أوبئة)، الأغذية اليومية (قمح، أرز، ذرة بمجالاتها الجغرافية و أسعارها و تنقلات زراعتها)، المشروبات (ماء، خمر، قهوة، شاي) السكن (أدوات البناء، منازل القرى، منازل المدن)، اللباس و الموضة، التقنيات (المصبغة، الملاحة...)، النقود (الرواج النقدي، المقايضة)، المدن (ظاهرة التمدن و المدن الكبرى).
- هذه العناصر تشكل "الحياة المادية"أو "الحضارة المادية" للإنسان أو بعبارة أخرى بروديلية دائما "الاقتصاد التحتي".أي النشاط الأولي والأساسي الذي تمارسه الجماعات البشرية في كل مكان بوثائر بطيئة التطور.
- إن دراسة بروديل لبنيات الحياة في بحثيه المذكورين تنبني من الوجهة الفكرية على الاحتكاك العميق بين مدرسة الحوليات و اتجاهين رئيسيين في التحليل و تصور الواقع الاجتماعي، و هما المادية التاريخية و البنيوية.
- الاتجاه الأول: يعترف بروديل بهذا السبق حين يقول: "عبقرية ماركس و سر سلطته الدائمة يرجعان لكونه كان أول من ابتكر نماذج اجتماعية حقيقية انطلاقا من الأمد التاريخي الطويل".
- الاتجاه الثاني: يتمثل في الاعتناق المنهجي للبنيوية و لكن بأسلوب نقدي يجعل مفهوم البنية كما ذكرنا يدرك و ينجز عمليا في البعد الزمني الطويل.
- يقول في حواره مع هذه العلوم سأتحدث عن زمن التاريخ، و هو حديث موجه بالخصوص إلى جيراننا في علوم الإنسان: اقتصاديون، إثنوغرافيون، إثنولوجيون، أو انتروبولوجيون، سوسيولوجيون، سيكولوجويون، لسانيين،جغارفة، ديموغرافيين، بل وحتى الرياضيين، الاجتماعيين و الإحصائيين. كل الجيران الذين تتبعناهم منذ سنوات طويلة في تجاربهم وأبحاثهم، لأنه كان يبدو لنا و لا يزال أن سيرنا و راءهم أو احتكاكنا بهم يضيء التاريخ بنور جديد. و لعلنا نتوفر بدورنا على شيئ نؤديه لهم،فمن التجارب والمحاولات الأخيرة للتاريخ، يبرز تصور تتزايد دقته أكثر فأكثر، حول تعددية الزمن والقيمة الاستثنائية للزمن الطويل. هذا المفهوم الأخير أكثر من التاريخ نفسه (تاريخ المائة وجه) من شأنه أن يثير اهتمام العلوم الاجتماعية جاراتنا".
- الزمن الدوري:
الزمن الدوري أو زمن الحلقات الدورية يعني به بروديل "تاريخ الظرفية"، تاريخ التذبذبات الدورية التي يعيشها الاقتصاد كواقع ارتفاعات و هبوطات الأسعار التي يمكن التعامل معها عبر مقاطع زمنية عريضة:10،20، 50 سنة.
- إن تاريخ الظرفيات المبني على أساس الأرقام والجداول والرسوم البيانية نشأ في فرنسا بفعل الاحتكاك مع علماء الاقتصاد الأمان، كما ذكرنا سالفا، و في ظل مناخ أزمة( 1929)، التي دفعت بالمؤرخين والاقتصاديين إلى البحث في أصولها التاريخية والتساؤل عن تعاقب مراحل الاتساع ومراحل التراجع الاقتصادي.
- الجدير بالذكر أن الظرفية امتدت مع بروديل لتشمل بالإضافة إلى دورات الأسعار، دورات الإنتاج(ارتفاعات وهبوطات إنتاج وتجارة الحبوب)، والدورات الديموغرافية (ارتفاعات أعداد السكان وهبوطها)، والدورات البيولوجية (الظهور والاختفاء المتعاقبان للأوبئة والمجاعات)...
- الزمن القصير:
يرى بروديل أنه من الواجب التعامل بحذر شديد مع هذه الأحداث والحوادث الجارية في زمنها القصير، لأن هذا المستوى من الزمن" يعد أكثر الآماد تقلبا وخداعا".
- الملاحظ أن بروديل وهو يناقش مفهوم الزمن القصير،عمل على رفع اللبس الذي قد يحصل في الخلط بين التاريخ الحدثي و التاريخ السياسي، فهذا الأخير ليسب الضرورة حدثيا.
- "إن المشكل يقول عن نفس المؤرخ(بروديل) يتمثل في كون التاريخ خلال 100 سنة الأخيرة، وهو يغلب عليه الطابع السياسي، ركز على مأساة الأحداث الجسام وعمل ضمن وحول الزمن القصير".
- إن التاريخ السياسي باستطاعته الاهتمام بقضايا أكثر عمقا من التاريخ الحدثي، فعوض التركيز على الأشخاص وتسلسل الأحداث يمكن الدخول في مجالات رحبة لدراسة الميكانزمات الاجتماعية، للسلطة والعلاقات بين الدولة والمجتمع. إنه ينجز اليوم عبر قنوات متعددة.
- عبر الاهتمام بالسياسة كشكل اجتماعي وثقافي.
- عبر مقاربة انتروبولوجية للمؤسسات السياسية.
- عبر تبصر حور دور الإيديولوجيا في تكوين لحقل السياسي.
- إن الفصل الثالث من كتاب "البحر المتوسط"...الذي يحمل عنوان "الأحداث السياسية و الأفراد"، يجمع في طياته بين تحليل المؤسسات السياسية والتنظيمات العسكرية البرية والبحرية للقوتين الإسبانية و التركية، وعرض الأحداث الكبرى الناتجة عن صراع هاتين القوتين داخل المتوسط في النصف الثاني من القرن 16م، أي على عهد فيليب الثاني، ملك إسبانيا.
- وهو بذلك يعتبر مساهمة حية في التاريخ السياسي والدبلوماسي والعسكري، وتنازلا كبيرا من قبل بروديل للتاريخ التقليدي وللمدرسة"الوضعية" أو "المنجية"، التي كانت لا تزال في الأربعينات تحافظ على مواقع مهمة في المؤسسات الجامعية. لكن وهو يمنح هذا التنازل يجعل التاريخ التقليدي في المرتبة الثالثة والأخيرة ليترك المكان الرئيسي للقضايا و المشاكل.
- أكرر مرة أخرى (يقول بروديل)، أنني كنت مؤرخا للحدث والسياسي، للشخصيات الجسام. البحث الذي أنجزته في إطار دبلوم الدراسات العليا "بارلودوك خلال السنوات الثلاث الأولى من الثورة الفرنسية" (ككل طالب يساري في تلك الفترة كانت ثورة 1789م تجذبني و تشدني)، كان واجبا ضميريا، باختصار كانت ساعتي تدق على إيقاع الجميع، وعلى النحو الموافق لأساتذتي التقليديين.
لقد عملت جاهدا أن أكون مثلهم بحاثة نزيها ومرتبطا ما أمكن بالأحداث. ديبلومي يثبت هذا الإخلاص شأنه شأن مقالتي الأولى ( 1928)،حول "الأسبان وإفريقيا الشمالية". أو مداخلتي في ندوة العلوم التاريخية المنعقدة بالجزائر (1930) والتي كنت فيها كاتبا مساعدا. شيئا فشيئا نمت شكوكي حول تحرير نص العمل الذي أقوم به فبينما، لم يكن فيليب الثاني الحذر والكئيب يجذبني إلا قليلا، كان البحر الأبيض المتوسط يشدني إليه أكثر فأكثر. منذ 1927م، كتب لي فيفر قائلا :" قد يكون من المثير للاهتمام معرفة بحر البرابرة عوض التركيز على فيليب الثاني". و في سنة 1931م، استعرض هنري بيرن بالجزائر أفكاره حول انغلاق البحر المتوسط نتيجة الغزوات الإسلامية. لقد كانت محاضراته قيمة مكنتني من الكشف عن الانغلاق والانفتاح الدوريان لهذا البحر. خلال هذه السنوات بين (1927-1933)، في وقت كنت تردد فيه على مستودعات الوثائق دون عجل حتى بخصوص الاختيار النهائي لموضوعي، نضج قراري من تلقاء نفسه، حينئذ اخترت البحر المتوسط. لكن لكل موضوع في التاريخ يستدعي ويتطلب إشكالية. في صيف 1939م، بدأت أستعد لتحرير كتابي بـ "سوجي"، و اشتعلت الحرب واشتركت فيها على حدود الراين، و سقطت سجينا في ألمانيا من 1940 إلى 1945. لا أتذكر اليوم سوى الذكريات الطيبة، لأن السجن يمكن أن يكون مدرسة مهمة جدا تعلم الصبر والتسامح. إن ذاكرتي وحدها هي التي مكنتني من هذه النتيجة الاستثنائية. من المؤكد أنه دون هذا الأسر سأؤلف كتابا مختلف تماما. كتاب ألفته بالسجن لذلك فهو كتاب تأمل.
- كل الأحداث التي كانت تسيلها علينا إذاعة و جرائد أعداءنا، أو حتى أنباء لندن التي تفشيها لنا الراديوهات السرية-كان علي تجاوزها، رفضها، نفيها. فليسقط الحدث، وخاصة المزعج. كان علي أن أقتنع أن التاريخ و المصير يسجلان على نحو أكثر عمقا. إن اختيار مرصد الزمن الطويل كان اختيارا. فبعيدا عن أشخاصنا وآلامنا اليومية يسجل التاريخ ويدور ببطء، مثلما هي كذلك هذه الحياة القديمة للبحر المتوسط التي غالبا ما أحسست دوامها كثبات عظيم. هكذا أخذت أبحث بوعي عن لغة تاريخية تكون من العمق بالدرجة التي تمكن من استيعاب أو ابتكار الزمن الثابت، أو على الأقل الزمن الذي يتحرك ببطء شديد و يعاند في تكرره. هكذا انتظم كتابي حسب خطوط زمنية مختلفة ومتعددة، تسير من الثابت إلى قصر الحدث. وإلى اليوم لا تزال هذه الخطوط ترسم و تخترق بالنسبة لي، كل المشهد التاريخي.
- مدرسة "حوليات" نجحت لأنها جاءت بنظرة جديدة و مجددة للتاريخ، وطرحت أسئلة جديدة لدراسة و كتابة التاريخ. لذلك نجحت و انتشرت، و صمدت بين المدارس التاريخية الأخرى.
- استنكر أصحاب مدرسة الحوليات الفرنسية، التطويل و الحشو الزائد في الكتابات التاريخية في أوائل القرن 20م، و التي كانت تركز على الأحداث السياسية والمناورات الدبلوماسية. ولقد دعا هؤلاء المؤرخون في نظرة شمولية بحيث تصبح الأحداث السياسية مجرد مكون واحد ضمن مكونات أخرى متعددة تتصل بحقيقة روح العصر والحياة اليومية لبسطاء الناس. ذلك أن السياسيين على مختلف ضروبهم و سياساتهم يجيئون ثم يروحون، ولا تبقى في نهاية الأمر إلا نمط الحياة للشعوب في تفاعلهم مع بيئاتهم من حولهم. ولهذا فإن هذه المدرسة قد اهتمت بالبحث في الجوانب الاقتصادية والاجتماعية بدلا من التركيز على الواجهة السياسية التقليدية، ولقد عبر بروديل عن هذا البعد الجديد بـ "المدة الطويلة"، الذي يعني عنده الاستمرار المادي الذي تتقلب على سطحه الأحداث السياسية.
- من جهة أخرى حمل موقف الحوليات شعبية معينة: القول بإعطاء حق المواطنة للمستضعفين الفلاح و الجنرال... كلاهما فاعل تاريخي يتساوى في الأهمية. و بالتالي التأسيس لبوادر كتابة تاريخية حديثة بدأت تجد تجسدها وانطلاقتها من اسم "التاريخ الجديد"...